المحكمة العليا الأمريكية تؤيد حظر جوازات السفر بعلامة "إكس" وتعيد الجدل حول حقوق المتحولين
المحكمة العليا الأمريكية تؤيد حظر جوازات السفر بعلامة "إكس" وتعيد الجدل حول حقوق المتحولين
في قرار أثار موجة واسعة من الجدل في الأوساط الحقوقية والسياسية، أيدت المحكمة العليا الأمريكية يوم الخميس حظر إدارة الرئيس دونالد ترامب إصدار جوازات سفر تحمل علامة "إكس" الخاصة بالأشخاص من أصحاب الجنس الثالث واللاثنائيين، وبذلك، أعادت المحكمة تطبيق سياسة رسمية تقصر الاعتراف على جنسين فقط، هما الذكر والأنثى، كما حددهما إعلان ترامب التنفيذي الصادر في بداية عهده.
ويعد هذا الحكم أحدث انتكاسة لحقوق مجتمع المتحولين جنسياً في الولايات المتحدة، إذ يأتي ضمن سلسلة من القرارات التي وُصفت بأنها تراجعية في مجال الحريات الفردية، خصوصاً من محكمة يشكل القضاة المحافظون أغلبية فيها بعد أن عيّن ترامب ثلاثة منهم خلال ولايته وفق فرانس برس.
عودة لسياسة ثنائية الجندر
منذ وصوله إلى البيت الأبيض عام 2017، سعى دونالد ترامب إلى إلغاء عدد من الإجراءات التي اتخذتها إدارات سابقة لدعم المساواة بين الجنسين، من بينها الاعتراف القانوني بالأفراد اللاثنائيين، وفي أولى خطواته، أصدر أمراً تنفيذياً في يناير من العام ذاته ينص على أن الحكومة الأمريكية "تعترف فقط بجنسين بيولوجيين محددين عند الولادة"، واضعاً بذلك حداً للاعتراف بالفئة التي كانت تُمنح علامة "إكس" في الوثائق الرسمية، بما فيها جوازات السفر.
وبموجب هذا القرار، ألزمت وزارة الخارجية بالعودة إلى تسجيل الجنس البيولوجي كما هو مثبت في شهادة الميلاد، متجاهلة الهوية الجندرية التي يختارها الفرد لاحقاً، وتبرر الإدارة السابقة هذا التوجه بأنه يهدف إلى "توحيد البيانات الرسمية وتجنب الالتباس القانوني"، فيما يراه المدافعون عن حقوق المتحولين تراجعاً واضحاً عن مكتسبات نضالية حققوها بعد عقود من الضغط السياسي والاجتماعي.
صراع قضائي طويل
القضية لم تكن جديدة على المحاكم الأمريكية، فقد كانت وزارة الخارجية قد استأنفت في وقت سابق حكماً صدر عن إحدى المحاكم الفيدرالية يقضي بضرورة استئناف إصدار جوازات السفر التي تتضمن خيار "إكس"، بعد أن تقدم الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية بدعوى نيابة عن مجموعة من المتحولين جنسياً، وبعد رفض محكمة الاستئناف الطعن الحكومي، أحالت وزارة العدل القضية إلى المحكمة العليا التي قررت في حكمها الأخير السماح مؤقتاً بسريان الحظر إلى حين البت النهائي في القضية أمام المحاكم الأدنى درجة.
وجاء في نص القرار أن "إظهار جنس حامل الجواز كما هو عند الولادة لا يُعد خرقاً لمبدأ المساواة في الحماية، تماماً كما تُدرج الدولة بلد الميلاد في الوثائق الرسمية"، معتبرة أن الحكومة "توثق حقيقة بيولوجية دون ممارسة تمييز مباشر".
انقسام داخل المحكمة العليا
القرار لم يحظ بإجماع داخل المحكمة المؤلفة من تسعة قضاة، إذ عارضه القضاة الثلاثة المحسوبون على التيار الليبرالي، مؤكدين أن هذا الإجراء ينتهك حقوق الأفراد في تعريف هويتهم بأنفسهم، ويشكل تمييزاً صريحاً ضد فئة تعاني أصلاً من الهشاشة الاجتماعية، وأشارت إحدى القاضيات المعترضات إلى أن "حرمان الناس من الحق في الاعتراف بهويتهم الجندرية لا يخدم أي مصلحة عامة، بل يضيف معاناة إنسانية غير مبررة".
أما الأغلبية المحافظة فقد رأت في المقابل أن المسألة "تندرج ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية" وأنها "ليست مسألة حقوق مدنية بقدر ما هي تنظيم إداري مرتبط بوثائق رسمية ذات طابع سيادي".
ردود فعل غاضبة من المدافعين عن الحقوق المدنية
سارعت منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية إلى التنديد بالقرار، معتبرة أنه يفتح الباب أمام "عصر جديد من الإقصاء المؤسسي"، وقال جون ديفيدسون، كبير مستشاري الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، إن الحكم يمثل "نكسة خطيرة للكرامة الإنسانية وحرية الهوية"، مؤكداً أن المعركة القانونية لن تتوقف، وأن المنظمة ستواصل الطعن في القرار أمام المحاكم الأدنى.
وأضاف أن حق الأفراد في تحديد هويتهم الجندرية "لا يمكن أن يخضع لتبدلات سياسية أو إدارية"، مشيراً إلى أن الاعتراف بخيار "إكس" في الوثائق الرسمية لم يكن رمزياً فحسب، بل "تعبيراً عن اعتراف الدولة بتنوع مواطنيها واحترامها للتجارب الإنسانية المختلفة".
من الاعتراف إلى الإلغاء
كانت إدارة الرئيس جو بايدن قد أطلقت عام 2021 مبادرة لتمكين الأمريكيين اللاثنائيين من اختيار علامة "إكس" في جوازات سفرهم، في خطوة وُصفت حينها بالتاريخية، وتم إصدار أول جواز سفر بهذه الصيغة في أكتوبر من العام ذاته، كجزء من سياسة أشمل تهدف إلى دعم حقوق المتحولين والاعتراف القانوني بهوياتهم.
غير أن هذه السياسة واجهت معارضة قوية من تيارات محافظة اعتبرت أن الاعتراف بالجنس الثالث "يتعارض مع القيم العائلية ويخل بالأسس البيولوجية"، ومع عودة ترامب إلى الواجهة السياسية وإعلانه الترشح مجدداً للانتخابات الرئاسية، تصاعد الخطاب المناهض لحقوق المتحولين، ما جعل القضية إحدى نقاط الاستقطاب الرئيسة في المشهد الأمريكي الحالي.
قرار آخر يمس الخدمة العسكرية
ولم يقتصر الجدل على جوازات السفر، إذ أصدر الرئيس دونالد ترامب في يناير أيضاً أمراً تنفيذياً آخر يحظر على المتحولين جنسياً الخدمة في صفوف الجيش الأمريكي، وهي الخطوة التي أثارت معارضة واسعة داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وقد أيدت المحكمة العليا في يونيو الماضي سريان هذا الحظر بشكل مؤقت إلى حين استكمال النظر في الطعون المرفوعة ضده، ما زاد من حدة الانتقادات الموجهة إلى المحكمة واتهامها بالانحياز السياسي.
ويرى مراقبون أن قرارات المحكمة العليا الأخيرة تعكس تحولات أعمق في ميزان القوى داخل النظام القضائي الأمريكي، حيث أصبح التيار المحافظ يمسك بزمام التوجهات في قضايا الهوية والجندر والحقوق الفردية، بعد سنوات من هيمنة المقاربة الليبرالية.
أبعاد اجتماعية ونفسية للقرار
يشير خبراء علم الاجتماع إلى أن قرارات كهذه تتجاوز البعد القانوني، إذ تؤثر بشكل مباشر على الشعور بالانتماء لدى فئات واسعة من المواطنين، فالأفراد الذين لا يتطابق جنسهم البيولوجي مع هويتهم الجندرية يجدون في الوثائق الرسمية مساحة اعتراف رمزية تعزز شعورهم بالمواطنة الكاملة. وإلغاء هذا الاعتراف يعني، بالنسبة للكثيرين، العودة إلى حالة من الإقصاء والإنكار الاجتماعي.
ويحذر الأطباء والباحثون من أن هذه السياسات قد تزيد معدلات الاكتئاب والانتحار بين الشباب المتحولين جنسياً، خصوصاً في ظل تصاعد خطاب الكراهية في الفضاءين السياسي والإعلامي.
معركة لم تنتهِ بعد
ورغم قرار المحكمة العليا، يؤكد ناشطو حقوق الإنسان أن معركتهم القانونية والسياسية ما زالت مستمرة، فهم يرون أن الاعتراف بالتنوع الجندري لا يتعلق فقط بالحرية الشخصية، بل أيضاً بحق كل إنسان في أن تُعامله الدولة على نحو يتسق مع كرامته وهويته.
وقال أحد الناشطين في واشنطن إن المجتمعات تتطور حين تختار التعاطف على الخوف، والاعتراف على الإقصاء، مضيفاً أن التاريخ سيحكم على هذه القرارات ليس من زاوية القانون فحسب، بل من زاوية القيم الإنسانية التي تُبنى عليها الأمم.
بدأت الولايات المتحدة منذ أوائل الألفية في تبني سياسات أكثر انفتاحاً تجاه قضايا الهوية الجندرية، مدفوعة بحركات مدنية واجتماعية طالبت بالمساواة والاعتراف القانوني للأفراد المتحولين واللاثنائيين، وقد اعترفت وزارة الخارجية الأمريكية لأول مرة بخيار "إكس" في جوازات السفر عام 2021، بعد أن كانت عدة دول، بينها كندا وأستراليا وألمانيا، قد سبقتها إلى ذلك.
لكن هذا التقدم واجه مقاومة شديدة من التيارات المحافظة التي رأت فيه تهديداً لـ"النظام الاجتماعي التقليدي"، مما جعل المسألة إحدى أكثر القضايا انقساماً في السياسة الأمريكية المعاصرة، ومع تزايد نفوذ القضاة المحافظين في المحكمة العليا، أصبحت قراراتها الأخيرة مؤشراً على مرحلة جديدة من الصراع بين قيم المساواة الحديثة والقيود المفروضة باسم الحفاظ على "الثوابت".










